تستحضر الأركان الخمس للإسلام معالم منظومة التوحيد بعمق يعيد المرء إكتشافه كلما تأمل فيه فلا يكاد يبلغ الفهم إلا النذر اليسير، تتجلى أبعاده بشكل مركب في كل مرة قوية صافية لتزيد المؤمنين يقيناً في إحكام هذا الدين الظاهر والباطن في مقاصد أحكامه وتفاصيلها الدقيقة.
والحج -تلك الفريضة الخامسة- هو إكتمال منظومة النموذج المعرفي الإسلامي بإمتياز، وإذا كان الحج لا يجب إلا في حق من إستطاع إليه سبيلا إلا أنه يظل مدرسة للأمة وخريطة لمعالم طريق التوحيد.
وترمي شعائر الحج لتكريس خمس معان مركزية متضافرة ممتزجة في كل شعيرة من شعائر الحج منفردة وفي الشعائر مجتمعة في مشهد الحج متكاملاً: التوحيد والعبادية، وتجدد الوعي بالإنسانية، ومركزية الزمن.. والتاريخ ودوره، ووحدة الأمة وتنوعها في إطار هذه الوحدة، وعلاقة الإنسان بالمكان وبالكون.
أما الخضوع لله بالإسلام والتوحيد فيبدأ بالإحرام، ويتوجه إلى الكعبة، وهي مدار الطواف الذي ينتظم المسلمون فيه كما تنتظم الأفلاك، مركز ودوائر، فيشعر الناظر بالتناغم بين مكة والوجود كله، يأتي الناس من مساراتهم المتنوعة ويغادرون سعيهم في الدنيا شتى ليدوروا في مدار العبادة لله، تاركين وراءهم حياتهم اليومية ومرتدين ما يشبه الكفن تذكيرا بأن مآل الموت ينتظر، فتصبح لبيك كلمة إسلام وعبادة وتجرد وخشوع، مسير لله وحده، خطوة بخطوة في أيام الحج المتتالية وشعائره، كل خطوة وكل سجدة وكل شعيرة ترفع درجة وتحط خطيئة حتى يعود المرء بريئاً من خطاياه كيوم ولدته أمه، مردا ورجعىً.
وأما الوعي بالإنسانية فيظهر من خلال التجرد من الدنيا ومسار الزهد الذي يسلكه الحاج ليستعيد الوعي بالفطرة والإدراك لحدود الجسد وإعادة التماس مع بأبعاد الروح وتسليم العقل والتمازج مع أمواج من البشر.
وفي الحج معلم الإنسانية الواحدة الذي يعلم رجال الأمة مع نساءها إستحضار شعور الأم في لهف هاجر في الصفا والمروة، ويعلم نساء الأمة مع رجالها قصة الإستخلاف في بناء إبراهيم للكعبة ودرس الفداء.
ويلاحظ المتأمل في مشهد الحج إستعادة الوعي بالزمن، ما بين تجديد عهد الله الذي جاء رسول الإسلام ليذكرنا به، قصة الأزل في خلق آدم وتحدي الشيطان، ورمي الجمرات تأكيدا للتوحيد وتجديدا لفهم عداوة الشيطان لبني آدم، والزمن يستعاد في معايشة قصة إبراهيم وتذكر حجة الوداع.
والزمن حاضر في ذاكرة جامعة تربط المسلم بمناهج العبادة ومسارات الإسلام في تواريخه المترابطة، ورغم الدقة الملزمة في المواقيت في أداء الشعائر في أيام الله والتنقل من مكان لمكان، إلا أن التجربة برمتها تبدو وكأنها نقلة خارج الزمن الآني وإنغماس في زمن وجداني فريد هو زمن التوحيد.
أما الأمة فهي الدرس، أمة واحدة تأتي من مشارق الأرض ومغاربها لتجتمع على توحيد الله وتتوحد بذلك عبر الألوان والأجناس والطبقات، تتعارف وتتكاتف وتتأدب في أرض إختصها الله في تلك اللحظات بأن تكون بوتقة الصهر -توحيداً وإتحاداً- لا رفث ولا فسوق ولا جدال. يجتمع عوامها وعلماؤها وتتواصل حلقاتها وتتضافر قوتها وتسجد لربها وتجدد شعورها بأمانتها وإستخلافها وشهادتها على العالمين.
وأما المكان فساحة لأداء الحج إنتقالا من نقطة الإحرام..مسارات ومدارات.. وصولاً لنقطة عرفة، لكل مساحة شعيرة تميزها ولكل مكان طبيعة تحدد دوره، منه ما يحل عليه الحاج ضيفاً، ومنه ما هو خلاء يخلق الحج له طبيعة اجتماعية تنعقد ثم تنفض، ورغم إزدحام الناس يبدو المكان حاضراً كأنه يتنفس، ويتعلم الناس فيه ومنه دروساً كثيرة.
لا مكان يعدل آخر، ولا مجال للقعود، والدرس أنه لا مجال لتحرر الإنسان وإنفكاكه عن المكان، إلا بتحرر الروح من الجسد، لكن الحياة رحلة انتقال في المكان والتنقل بين الأزمنة والتقلب بين التواريخ.
الحج..تلك الفريضة الخامسة..قصة الخلق وذكرى الفداء ومسيرة التوحيد ومدرسة التجرد وبوتقة الأمة وإنصهار المكان والزمان وتجرد الجسد، وصحوة الروح ما بين كعبة وعرفة المكان، وكعبة وعرفة..التوحيد والعِرفان.
الكاتب: د هبة رؤوف عزت.
المصدر: المنتدي الإسلامي العالمي للإسرة والمرأة.